نحكي لكم دائما قصص جديدة كل يوم واليوم زوارنا الكرام نحكي لكم قصة بعنوان “قصة عازفة البيانو الصغيرة” قصة جديدة نتمنى أن تنال إعجابكم، وللمزيد من الحكايات الشيقة زورونا دائما على : قصص الاطفال .

ولدت روند في بيت عريق، وترعرعت في البحبوحة والعز. وفضلا عن الثراء الذي ورثه أبوها عن أجداده، كان بين أفراد أسرتها ملامح واضحة لمواهب فنية وموسيقية على وجه التحديدفي مكتبة البيت، كثيرا ما جلست روند في حضن أبيها تشارکه الاصغاء إلى الألحان الكلاسيكية تنبعث بدفء من أحد الأركان الخافتة الضوء… وهي لا تذكر، متی تعرفت بروائع بيتهوفن وشوبان وموزار وسواهم…

غير أن مطلع اللحن المتماوج بهدوء، أو العاصف بغضب، كان كافيا لمعرفة مؤلفه… وهو ما تميزت به الطفلة بين رفيقاتها وأفراد أسرتها.. لكن روند، كمعظم أبناء الأسر المرموقة في المجتمع، كانت مدللة كسولة، يستهويها الاسترخاء والاستماع، بلذة ما بعدها لذة. كانت تقضي الساعة تلو الساعة، على هذا النحو مما حمل أباها على التشاور في أمرها، والسعي لإخراج موهبتها الى النور، بدل السكوت عن طمسها طي الظلمة!…

في الحفلة الكبرى التي أقيمت المناسبة بلوغ روند عامها العاشر، وصلتها هدايا كثيرة من الأهل والرفاق، وكانت الموسيقى تصدح بجدل في قاعة الاستقبال ناشرة الفرح والانشراح بين المدعوين… وفي غمرة انشغالها بواجبات الضيافة، سها عن بال روند، أن أبويها لم يقدما لها هديتهما، عندما قبلاها، متمنيين لها السعادة والنجاح… وكانت مفاجأة للجميع، عندما دق الباب، وبرز رجال أربعة يحملون شيئا ضخما، لم يلبثوا أن

کشفوا عنه… فإذا هو(بيانو) جميلة، مع بطاقة كتب عليها: (الى الحبيبة روند، مع تمنيات الماما والبابا) وارتفعت من الحضور هيصة عالية، وعاصفة من التصفيق.. وفيما روند تقبل أبويها شاكرة، كان يتردد من الحضور عبارات، أمثال: كم أنت محظوظة یا روند!… إنها هدية… لا ريب أن البيانو ثمينة… حتما.. ثمينة!وفعلا، كان والد روند، بالاتفاق مع أمها، قد أوصى لها من محل لبيع الآلات الموسيقية على أفضل بيانو، وعلى أفضل مدرس، يباشر في اليوم التالي، إعطاءها دروسا منتظمة في العزف.. كان الأب على يقين، بأن ابنته التي أظهرت، في طفولتها المبكرة، میلاً خارقاً إلى الموسيقی، ستتعلم العزف على البيانو بسرعة، وتطرب أهل بيتها والجيران… ستلتحق بمعاهد الموسيقى، وستدهش أساتذتها الكبار بموهبتها… ولم لا؟ ألم يكن عمها عازفاً مشهوراً على الكمان؟ وجدها مؤلفاً وعازفاً على البيانو؟ وحتى خالها كان قائد الفرقة الموسيقية في الجامعة؟…

كل هذا، وروند ما تزال خارج اللعبة… لا ريب أنها فرحت بهديتها فرحاً عظيماً وأحست بأهميتها أمام رفيقاتها، مما غذي كبرياءها والثقة بنفسها… لكن، يجب ألا ننسى أن نسق حياتها، حتى الآن، كان بعيدا عن العمل الجدي المثابر، كتعلم العزف على البيانو وما يلزمه من جد ومثابرة… وإرادة للجلوس الطويل، وشوق للوصول الى الهدف المرتجی!… وهي صفات افتقرت اليها روند، وبدا أن حساب البيدر لم يأت موازیا لحساب الحقل!! صحيح أن روند استقبلت استاذ البيانو بترحاب، وأصغت جيدا إلى توجيهاته فيما يختص بجلستها على المقعد، وبرکزة أناملها على الملامس العاجية البيضاء والسوداء…

نرشح لك: قصص اطفال قبل النوم .

وصحيح أن الأستاذ أشاد بموهبتها، ولم تمض أسابيع، حتى صارت تقرأ «النوتات» بسهولة كما لو كانت تقرأ لغة جديدة… لكن عزف روند الأولي، وهو عبارة عن تمارين بسيطة، كانت تنقصه أشياء جوهرية. كانت تنقصه الروح… والحرارة… والنبض الضروري لكل أداء فني!! الجميع أحسوا بهذا، لكن أحدا لم يفتح فاه بالإنتقاد، أو بإبداء الرأي.. وحتی روند نفسها، لم تفتها هذه الحقيقة

. لقد كانت تعزف بأناملها وبدون إشراك حواسها، كأنما غايتها إرضاء أبويها وحسب، عذرها في ذلك، أنها لم تكن هذه رغبتها هي، في تلك المرحلة من طفولتها اللاهية اللعوب… حتى كان ذات ضحى أثناء العزف، وببساطة، نهضت عن مقعدها بتوتر وغادرت المكان… لقد صبرت على نفسها عدة أسابيع، وهي بالتأكيد ليست راضية عن النتيجة التي أحرزتها، وليست، بالتالي، مستعدة للاستمرار في التمثيل والادعاء أمام أستاذها وأهلها بأنها (تلك العازفة الناجحة !!)… وفي غرفتها، أقفلت روند الباب من الداخل، واستلقت على سريرها… وأغمضت عينيها، طلبا للراحة…

وكانت العروق فوق صدغيها تقرع بعنف، والصداع في رأسها لا يحتمل!… بعد لحظات، وهي تقاوم ثورة الغضب من نفسها على نفسها، تناهي اليها من الحديقة تحت نافذتها، غناء عصفور… سألت نفسها: أهو بلبل، أم کنار، أم حسون؟… وراحت تتحرر… مرة يخيل إليها أنه بلبل، ثم تعدل عن الرأي مؤكدة أنه حسون، لكنها لا تلبث أن تقرر… بل إنه کنار! وظلت برهة من الزمن مع حوارها الذاتي، وهي مغمضة العينين، وقد ركزت كل اهتمامها على الزقزقة المعبرة الحنون، التي دغدغت أعصابها المتشنجة، وخففت شيئا فشيئا، آلام رأسها وصدغيها.. يا لها من تجربة ! أن يتجرد تفكيرها، وينحصر في غناء هذا العصفور الغريب، الذي لم تستطع تحديد هويته! ودفعها فضولها إلى فتح عينيها والقفز بعصبية إلى الشرفة، حيث يتاح لها مشاهدة عصفورها عن قرب…

على حافة الشرفة، اتكأت روند تراقب المغتي الصغيرة وقد هيج في داخلها انفعالات ثورية متناقضة عجزت عن تسميتها أو التعرف بمكامنها وأسرارها، لكنها حتما، أحدثت في نفسها انقلابا غريبا!!
أكثر ما أدهشها، من أول لحظة، أن المغرد المجتهد لم يكن كنارا، ولا بلبلا، حتى ولا حسوناً!.. بل كان عصفورا عاديا، لكن تغريده كان مشحونا بالحرارة والحماس… كل أعضاء جسمه الصغير كانت تهتز وترتعش حماسة واندفاعا. كان حتما يعطي… يعطي من نفسه، أقصى ما يستطيع… يعطي وهو سعيد… وينتفض جناحاه بنشوة الفرح الفرح بالعطاء الأفضل… الذي وحده لائق… وجيد… ومرض لعنفوانه !! يا للمغرد الساحر، كيف يتماوج الغناء من حنجرته! حتی مخالبه الدقيقة المتشبثة بالغصن، بدت في حالة تحفز إلى الأمام!! أي انسجام هائل هذا بين غنائه وحركات جسمه !!!

نسیت روند نفسها، وهي تراقب بشغف، وانبهار لا مزيد عليه، جارها على الشجرة، وهو يحاول بأقصى جهده، أن يطرب العالم كله، بأفضل ما يستطيعه من غناء!! هنا، وضعت إصبعها على موطن ضعفها، وتساءلت بجرأة: هل حاول مرة أن أعزف على البيانو، على نحو ما يغرد هذا العصفور الضعيف الماثل أمام عين؟ وهل كان للفشل أن يتسرب الى لو جتدت كل طاقاتي الفاعلة لتنمية موهبتي الفنية؟ .. واعترفت روند لضمیرها الذي استيقظ، لأول مرة ليحاسبها إعترفت بأنها كانت تعزف
کواجب لا كمتعة، إرضاء لأبويها، لا إرضاء الكبريائها، أو إنماء لموهبة أصيلة كامنة في أعماقها…

عجيب أمر صداعها كيف زال، ومعه القرع على صدغيها! مشكلتها إذن كانت نفسية كانت عقدة وحلت! … وبنشاط رفعت سماعة الهاتف وكلمت أستاذها. ولا نعلم على أي ترتيب إتفقا لكن الذي نعلمه، أن أهلها والجيران، دهشوا لدى سماع عزفها عصر ذلك اليوم… لقد دبت الحيوية والحرارة في لمسات أناملها الرشيقة الطبيعة، وتعالت الألحان الشجية وغمرت البيت والحديقة والحي المجاور…

وهرع أفراد أسرتها من غرفهم يستطلعون الخبر اليقين، وقد علا الاستغراب وجوههم، كأنهم لا يصدقون آذانهم المفتونة بروعة ما يسمعون.. وحدها روند، أدركت السر الذي حيرهم… من كان يصدق أنها كانت تقلد العصفور؟! وأنها تعلمت منه درسا… ولا أثمن ! تعلمت أن تعطي في عزفها، وفي كل عمل تقوم به أن تعطى ” كل طاقاتها وأقصى ما تستطيعه، بفرح. الأن الأفضل وحده، لائق… وجيد!!